الأربعاء، 24 فبراير 2016

أصحاب القلوب الطاهرة





هذا الرجل الذي يقترب من عقده الخامس‏,‏ والذي يجلس مع طفليه الملائكيين‏,‏ وقد ظهر عليهما مظهر الترف والراحة المادية متمثلة في ملابسهم وساعاتهم‏,‏ بل وموبايلاتهم أيضا‏,‏ كانوا يجلسون علي المنضدة التي تجاورني بسنتيمترات قليلة علي حمام السباحة بداخل أحد الاندية الراقية‏,‏ والتي بحكم يوم الإجازة تزدحم جلساتها لتكاد تكون ملتصقة بعضها لبعض‏...‏ هذا الرجل الملقب بالباشا من جميع افراد وموظفي النادي‏,‏ والذي عكس مظهره مدلول هذا اللقب كان قد افترش علي منضدته كل أنواع أجهزة الموبايل القيمة الثمن‏,‏ والتي من خلالها تكتشف بسهولة من أحاديثه المتقطعة عن قيمة مركزه المرموق في ساحة المحاكم والقضايا‏,‏ كما احتل الباقي من المنضدة الطعام الديليفري
الذي واضح أنه حرص علي ان يكفي الاولاد ويفيض‏.‏ بدأ الحوار الذي شدني أنا وزوجتي أن ننصت له‏,‏ ونحن ننتظر خروج نجلنا من ميعاد تدريبه‏,‏ حيث بدأ خارجا من صوت رخيم عطوف مفعم بحنية مفرطة تصدر من مقدم برامج أطفال يصعب عليك تصديق أن يخرج من هذا الكيان الضخم شكلا وهيبة‏...‏ كان الرجل حريصا علي اعطاء خلاصة تجاربه في صورة نصائح وتوجيهات‏,‏ خاصة للولد الكبير ذي السنوات العشر مخاطبا اياه كل ما يصيبنا هو خير من عند ربنا سبحانه وتعالي‏,‏ فهو القائل‏,‏ وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏....‏ أحرص علي معاملة اخيك الصغير معاملة طيبة حسنة‏,‏ ولا ترد له الإساءة إلا بالحسنة‏,‏ ولا تكن أنت والزمان عليه‏,‏ يكفي ما نراه الآن من مشكلات‏..‏ احرص علي الا تغضبه‏,‏ ويجب عليك أن تكون له درع الأمان التي يرجع لها في أي وقت‏.‏
حتي الآن والارشادات تصدر من أب ناصح أمين علي اولاده يحاول جاهدا وضعهم علي المسار السليم‏,‏ ويحدث أن الطفل الصغير يأتي مهرولا شاكيا من فرد الأمن الذي يمنعه من لعب الكرة وسط جلسات العائلات‏,‏ فيطلب منه الوالد نداء هذا الموظف لمخاطبته دون أن يتحرك من مكانه‏,‏ ويأتي الرجل ويقف بين يدي الباشا معتذرا له لانها التعليمات‏,‏ ويسأله الباشا عن مكان رئيس النادي ليتكلم معه‏,‏ فيجيب الرجل بكل احترام أنه علي وشك الوصول‏,‏ فيصرفه الباشا بدون كلمة‏,‏ ولكن مرة أخري يضرب الباشا مثلا آخر‏,‏ فيخاطب ولده لتفسيره ما حدث قائلا مادام رد الرجل بأدب واحترام‏,‏ فلا مانع من تنفيذ التعليمات إلي أن يصل رئيس النادي لمناقشته فيها‏,‏ وهكذا سار النصح والارشادات‏...‏ إلي أن يحكي له ولده عما قالته له والدته ناهية إياه عن تكرار شيء ما فعله بكلمة دارجة معروفة عند امهاتنا كلنا‏,‏ وهي هاطين عيشتك وعفوا سيدي‏,‏ فلقد سمعت بعدها ورأيت رجلا آخر يصعب وصفه بكلمات وحروف‏,‏ حيث أقل ما يوصف عنه عندما سمع هذه الجملة أنه قد تحول لكائن آخر نعم أنا اعنيها‏,‏ فهل تتذكر معي فيلم الرجل اللطيف الذي يتحول تحت ضغط عصبي إلي العملاق الأخضر‏...‏ نعم إنه مثله‏,‏ حيث صرخ في وجه ولده الذي تحول أيضا إلي فرخ صغير خارج من الماء‏:‏ كيف تقول لك هذه الــ‏..‏ أنها هاتطين عيشتك بنت الــ‏...‏ اللي عيلتها‏...‏ طيب خليها تعملها كده معاك‏,‏ وأنا أعمل‏...‏ وأسوي‏...‏ آسف سيدي مرة أخري لقد إنهال علينا هذا الكلام البذيء‏,‏ وعلي الولدين مثل المطر كلام يصعب قوله للص من رجل شرطة سيئ الخلق داخل حجز في نقطة شرطة‏,‏ كلام استفزنا جميعا‏,‏ وتوقفت امام رجاء زوجتي بعدم التدخل كطرف في الموضوع‏,‏ كلام شد انتباه المارة‏,‏ وهو يخفو تارة‏,‏ ويعلو في وتيرته تارة أخري كلما ذكرت سيرة الأم‏,‏ وكان واضحا من الكلام أن هذا الأب طلق زوجته من فترة ليست بعيدة‏,‏ وخسر معها برغم نفوذه حضانة الاولاد‏,‏ وظن أن مقابلته لهم علي فترات قادرة علي تحسين صورته امامهم‏,‏ وتعديل ما تفسده تربية هذه المرأة التي ابتلاه الله بها وجعلها أما لهذين الطفلين‏,‏ وقد صور له عقله الباطن أن لا علاج فعال لكسب قلوب هذين الطفلين إلا المال الذي يغدقه عليهما تعويضا عن حنان مفقود وعطف ضائع وتقربهما له بشكل أكبر‏,‏ وتناسي أن هذا المال لا ينفع امام طغيانه‏,‏ وكراهيته بهذا الشكل علي هذه المرأة التي لا اعرفها‏,‏ ولا أدافع عما اقترفته في حقه أو حق ولديه‏,‏ ولكن أدافع عن حق الولدين في الاحتفاظ بصورة جيدة لامهما تلك الام التي دمرت صورتها بفعل فاعل أمام ولديها‏,‏ والتي يعز علي ان أسمع ما يقال لهما في حقها‏,‏ وأظل ساكنا امام دوافعي الإنسانية‏,‏ وحسرتي عليهما أمام أب يتجرد من ابوته كلما ذكر أسمها‏,‏ بل الادهي انه يتعظم امامهما بما فعلت قدرته علي تحويلها إلي متسولة كل شهر طلبا للاعاشة‏,‏ وأنه يستطيع في أي وقت خسف الأرض بها لولا حرصه عليهما‏!!‏ كما يتطاول أيضا علي مديرة مدرستهما نتيجة رفضها ان يذهبا معه خارج المدرسة‏,‏ ويتفاخر بأنه يستطيع نقلها أو إهانتها أمام مدرسيها‏,‏ ولكن حرصا علي الاولاد فهو يؤجل ذلك لوقت آخر‏,‏ ويكتفي بذهاب جدتهما المحامية إليهما من وقت لآخر للاطمئنان عليهما في المدرسة‏.‏
سيدي أستحلفك بالله أن تقف معي مخاطبا كل من علي شاكلة هذا الرجل‏,‏ فهو يستعين بالدين ويفسره‏,‏ كما يراه ويستعين بنفوذه لتحقيق غايته‏,‏ ولكنه يدمر صورة أم أمام أولادها ينسف فيهما حبها وعطفها‏,‏ يا تري هل فكر ماذا لو سمع الاولاد الكلام نفسه من ناحية والدتهم‏,‏ وأعتقد أن هذا أقرب إلي الحدوث ألم يفكر في الازدواجية التي ستحدث لهما؟ وفي الاصل ما ذنبهما في عدم توفيق رجل وامرأة في العيش تحت سقف واحد أليس الله بقائل في سورة الطلاق فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف أرجو من الله أن يقرأ هذا الكلام‏,‏ ويستمع لحكمك وتعليقك‏,‏ ويتقي الله في اولاده‏,‏ وفي أمهم التي اكلت معه في طبق واحد يوما ما‏,‏ وربما سترت عيوبه عن الآخرين‏.‏

ولكاتبة هذه الرساله أقول ‏*‏ سيدي‏...‏ لم أنشر رسالتك لانها تكشف سوء سلوك أب‏,‏ لم يفهم أنه بما يقوله لطفليه عن أمهما يدمرهما نفسيا ويعلمهما أول دروس التمرد والتجاوز الذي حتما سيناله منهما الكثير‏..‏ ولكن رسالتك تكشف عن ثقافة غائبة عن مجتمعنا‏,‏ وهي ثقافة الانفصال أو الطلاق‏.‏
هذا القرار الذي يتخذه أحد الطرفين أو كلاهما‏,‏ هربا من واقع سيئ أو بحثا عن واقع أفضل‏,‏ فأيا كانت أسباب الطلاق‏,‏ يصبح هناك واقع جديد لا ينتهي بانفصال الطرفين‏,‏ واقع يقول إن في حياتنا أطفالا‏,‏ لم يشاركوا في اختيار كل طرف للآخر‏,‏ ولا يتحمل أي منهم مسئولية في سوء العلاقة بينهما أو تدهورها‏,‏ هم ثمرة لعلاقة شرعية‏,‏ لهم كل الحقوق في اكتساب مزاياها‏,‏ وعدم دفع ثمن نتائجها السلبية‏,‏ ما يحدث عادة بعد الطلاق‏,‏ هو حالة من العناد‏,‏ تبدأ في أقسام الشرطة‏,‏ وتشتعل في المحاكم‏,‏ وتنتهي بقانون الرؤية المليء بالثغرات والعيوب التي تؤلم الآباء والأبناء‏.‏
الصراع عادة لا يكون من أجل الصغار‏,‏ ولكن من أجل انتصار طرف علي الآخر‏,‏ وإذلال طرف للآخر‏,‏ نشوة الانتصار الغبية تعمي الأبصار‏,‏ فيتفنن أحدهما لمنع الآخر من رؤية أطفاله‏,‏ أو الجلوس معهم أطول وقت‏,‏ رؤية محددة بوقت ومكان‏,‏ يذهب الأطفال محملين بتوجيهات وتعليمات بعد أن يوغر الأب أو الأم القلوب الصغيرة ضد الطرف الثاني‏,‏ الذي يتلقف الصغار ويفاجأ بما يحملونه من مشاعر سلبية تجاهه‏,‏ يغتنمها هو الآخر فرصة ليشوه صورة الطرف الأول‏,‏ ثم يبدأ هو الآخر في توجيه النصائح والإرشادات‏,‏ متذرعا بأنه يحاول إصلاحهم‏.‏
الحقيقة التي يجهلها الطرفان أو لا تشغلهما هي ما يحدث داخل نفوس هؤلاء الأبرياء من تشتت نفسي‏,‏ وازدواجية في المشاعر‏...‏ أحاسيس مضطربة تجاه الأبوين‏,‏ حب مضطرب متوجس‏,‏ يظهر في صورة أحلام مفزعة‏,‏ إضطراب وجداني‏,‏ تلعثم في الكلام‏,‏ تبول لا إرادي‏,‏ وفشل دراسي واجتماعي‏.‏
الدراسات الاجتماعية والنفسية تؤكد أن نسبة كبيرة من أبناء الطلاق يعانون من مشكلات سلوكية تنعكس علي حياتهم‏,‏ ويكونون أقل قدرة علي مواجهة المجتمع‏,‏ كما تزيد نسب فشل علاقاتهم الزوجية في المستقبل‏.‏
أي أب أو أم هذا الذي يريد لابنه هذه الحياة بسبب عناده وأنانيته‏...‏ لماذا لا يفصل المطلقون مشكلاتهم بعيدا عن أبنائهم‏,‏ فإذا كانت حياتهم قد إنتهت‏,‏ فإن حياة آخرين بدأت‏,‏ وسوف تستمر فما المكسب الذي سيعود عليهم بتدميرها‏.‏
لماذا لا يعيش كل واحد منهم حياته كما يحب‏,‏ ويضعان خطة اجتماعية ونفسية لتربية أبنائهما بدون تحطيم صورة الأب أو الأم‏,‏ فإذا أساء أحدهما أو عرض طفله للإيذاء فإن القانون يقف له بالمرصاد‏,‏ يعاقبه ويحرمه من رؤية أو تربية ابنه لأنه غير أمين عليه‏,‏ ولكن أين هذا القانون؟‏.‏
لماذا لا يكون لدينا بروتوكول تربية يوقع عليه الأب والأم أمام قاض في حالة الطلاق‏,‏ يلزمهما بأسلوب التربية‏,‏ ومن يخل أو يختل يتعرض لعقاب قاس؟‏...‏ فمناشدة الآباء لن تجدي إذا لم يكن هناك قانون ملزم وصارم‏,‏ فحماية الأجيال الجديدة مسئولية الحكومة‏,‏ وما أطرحه أضعه أمام وزيرة الأسرة والسكان النشيطة‏,‏ والتي لا تيأس السفيرة مشيرة خطاب‏,‏ فالأمر خطير‏,‏ وبريدي لا يخلو يوميا من صراخ وبكاء وتوسلات من آباء وأمهات يعانون من قانون الرؤية‏,‏ أما الغائب عنا‏,‏ فهو صوت المظلومين الأبرياء‏,‏ أصحاب القلوب الطاهرة‏,‏ أطفالنا‏,‏ الذين لا يعرفون ولا يفهمون لماذا أتوا إلي الدنيا ليلقوا كل هذا العذاب من أقرب الناس إليهم‏,‏ من الذين أعمتهم لذة انتصار مؤقت تؤدي إلي هزيمة دائمة لأحب الناس‏,‏ ملائكة الطلاق‏...‏ فهل ينقذهم القانون من الاغتيال اليومي‏,‏ بعد أن غاب الضمير أو مات؟‏!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق